فصل: مسألة يتكفل برجل إلى أجل على أنه إن لم يوافه فهو ضامن للمال فلا يوافه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يبيع من الرجل الجارية على أن ينفق عليه حياته:

ومن كتاب أوله سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وسئل: عن جارية وضعها رجل عند رجل فأنفق عليها ثلاثين صاعا من تمر، ثم جاء سيدها، فقال: إنما لك ثلاثون صاعا، وقال المنفق: بل لي بسوق يوم أنفقت واشتريت، والطعام يوم جاءه صاحبها أرخص، قال مالك: يحسب يوم أنفق، يعطي بذلك دراهم، قال ابن القاسم: وذلك إذا كان المنفق اشترى بالثمن، فأما إن كان طعاما أخرجه من عنده فليس له إلا مكيلة طعامه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم تفسير لقول مالك: إنه إن كان اشترى الطعام فله قيمته يوم اشتراه؛ لأن الثمن الذي اشتراه به إذ قد تعين في الشراء فلا يلزم صاحب الجارية ما عين فيه، وهذا مثل ما في كتاب السلم الثاني من المدونة في الذي يبيع من الرجل الجارية على أن ينفق عليه حياته: إن البيع يفسخ ويرجع المشتري على البائع بقيمة ما أنفق عليه، وفي رواية أبي زيد: أنه يغرم ما أنفق عليه، وليس ذلك باختلاف من القول، ومعناه: أنه يغرم له الثمن الذي اشترى به الطعام إن كان لم يكن في الشراء تغابن، وقيمته إن كان فيه تغابن، وقد قيل: إن ذلك اختلاف، والأول أظهر، والله أعلم، والحكم فيما يرجع به المنفق على الجارية الموضوعة عنده حكم الحميل يتحمل بالطعام، فيؤخذ به فيشتريه للمتحمل له، بخلاف من تطوع فأدى عن الرجل بغير أمره طعاما عليه اشتراه بذلك، يرجع بالأقل من مثل الطعام أو الثمن الذي اشتراه به.

.مسألة امرأة أعطتني ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت وسألني زوجها إعطاءه:

من سماع أشهب وابن نافع من كتاب الأقضية قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع، قالا: سئل مالك، فقيل له: امرأة أعطتني ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت، وسألني زوجها إعطاءه الذكر، وهو زوجها ومولاها ولا وارث لها غيره، فقال: يسأل فإن كان على المرأة دين فلا تعطيه إياه، وإن كانت لا دين عليها فأشهد عليه وأعطه إياه، قيل: إن المرأة قد أوصت بوصايا، فقال له هذه المقالة: أشهد عليه وأعطه إياه.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه فرق بين الدين والوصايا، فقال: إنه لا يعطيه ذكر الحق إن كان عليها دين، ويعطيه إياه ويشهد وإن كان عليها وصايا إذا لم يكن عليها دين، وذلك لا يصح، إذ لا فرق في هذا بين الدين والوصايا، والواجب في هذا أن ينظر إلى ما عليها من الدين، فإن كان لا يفي به ما تركت من المال سوى ما لها من الحق على زوجها لم يدفع ذكر الحق إليه، وإن كان يفي به دفع ذكر الحق إليه وأشهد به عليه، وكذلك الوصايا أيضا ينظر إليها فإن كان لا يفي بها ثلث ما تخلفت من المال سوى ما لها على زوجها لم يدفع ذكر الحق إليه، وإن كان يفي بها دفع إليه ذكر الحق وأشهد عليه، والأولى أن لا يدفعه إليه بحال، ويضعه على يدي عدل مخافة أن يطرأ عليها ديون لم يعلم بها. فقوله: إن كان على المرأة دين فلا يعطيه إياه- معناه: دين لا يفي به ما تخلفت من المال سوى ما لها على زوجها في ذكر الحق، وبالله التوفيق.

.مسألة بيده مال ليس له أله أن يسلفه:

وسئل: عمن بيده مال ليس له، أله أن يسلفه؟ قال: ترك ذلك أحب إلي، وقد أجازه بعض الناس فراجعه فيها، فقال: إن كان مال فيه وفاء وأشهدت على ذلك، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله: إن ترك ذلك أولى وأحسن، ومعناه: إذا كان له مال فيه وفاء، وأشهد بذلك، وأما إذا لم يكن له مال فيه وفاء فلا يجوز له ذلك وإن أشهد، ومثله في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب البضائع والوكالات من قول ابن وهب.
وقد اختلف إذا تسلف منها بغير أمر ربها ثم رد ما تسلف، هل يصدق في الرد ويبرأ بذلك من الضمان أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يصدق في ذلك ويبرأ من الضمان، وهو أحد أقوال مالك، وبه أخذ ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ.
والثاني: أنه لا يبرأ إلا أن يرد بإشهاد، قال ذلك مالك أيضا، وبه أخذ ابن وهب وابن كنانة.
ولمالك قول ثالث: أنه لا يبرأ وإن أشهد؛ لأنه دين قد ثبت في ذمته، رواه المدنيون عنه، ورواه عنه المصريون أيضا ولم يقولوا به.
ولابن الماجشون قول رابع: وهو تفرقته بين أن يكون المال مصرورا أو منثورا.
ولو قال له صاحبها: تسلف منها إن شئت، فتسلف لم يبره رده إياها إلا إلى ربها، قال ذلك في كتاب ابن شعبان، وهو صحيح لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة أقر أنه كانت له عليه ثلاثة وعشرون دينارا:

ومن كتاب الأقضية:
وسئل فقيل له: كانت لي عند رجل ثلاثة وعشرون دينارا وديعة، فكنت آخذ منها الشيء بعد الشيء حتى بقيت لي عنده ثمانية عشر دينارا، فسألته إياها، فقال: وضعتها في بعض حاجتي، ولكن اكتبها علي فكتبتها عليه بالشهود والبينة مؤرخة فغبت ثم رجعت فتقاضيته إياها، فجاء علي ببراءة فيها مكتوب براءة لفلان ابن فلان من أربعة دنانير ليست إلا ربعة مؤرخة ولا منسوبة من الثمانية عشر ولا من الثلاثة وعشرين، فهو يقول: هي من الثمانية عشر، وأنا أقول: من الثلاثة وعشرين التي كانت لي عليك قبل أن أكتب عليك الثمانية عشر.
قال مالك: ليست البراءة مؤرخة ولا منسوبة إلى ثمانية عشر ولا إلى ثلاثة وعشرين؟ وذكر حقي عليه مؤرخ بثمانية عشر، فقال له: أيقر لك بأنه قد كان لك عليه ثلاثة وعشرون دينارا؟ فقال: لا، فأطرق طويلا، ثم قال: إن أقمت البينة أنه قد كانت لك عليه ثلاثة وعشرون دينارا حلفت بالله ما هذه البراءة من الثمانية عشر، وكانت لك عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا أقر أنه كانت له عليه ثلاثة وعشرون دينارا أو أقام عليه بذلك البينة كان القول قوله: إِنَّ البراءة ليست من الثمانية عشر وإنما من الثلاثة وعشرين، ولو لم يقر بذلك ولا قامت عليه به بينة لكان القول قول المطلوب إن البراءة من الثمانية عشر باتفاق إن كان لم يكن بينهما مخالطة، وعلى اختلاف إن كانت بينهما مخالطة. وقد مضى هذا في أول سماع أبي زيد من كتاب الشهادات بزيادات لها بيان، وبالله التوفيق.

.مسألة البينة على ما ادعى واليمين على ما أنكر:

وسئل: عمن استودع صبرة حنطة فاستنفق المستودع الحنطة، فلما جاءه الرجل فطلب قمحه، قال: قد استنفقته، أنا أعطيك مثله، قال الرجل: إني قد كنت قد صورت دينارا وطرحته في صبرة القمح، أترى له أن يحلف ويأخذ الدينار منه أم يحلف المستودع ويبرأ؟ فقال: أرأيت لو قال: جعلت فيها مائة دينار؟ أرى أن يحلف ويبرأ، قيل له: كيف يحلف؟ أيحلف أنه لم يكن في الصبرة شيء؟ أم يحلف على عمله؟ فقال: لا، ولكن يحلف ما أخذت شيئا ولا علمت لك فيها شيئا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن صاحب الطعام مُدَّعٍ، وقد أحكمت السنة أن البينة على ما ادعى واليمين على ما أنكر، هذا إن حقق الدعوى عليه أنه وجد الدينار وأخذه، وإما إن لم يحقق عليه الدعوى أنه وجده، يجري الأمر على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة، وبالله التوفيق.

.مسألة استودع رجلا متاعا فعدا عليه عاد:

من سماع ابن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال عيسى: قال ابن القاسم: لو أن رجلا استودع رجلا متاعا فعدا عليه عاد، فأغرمه على ذلك المتاع غرما لم يكن على صاحب المتاع غرم شيء مما غرم عن متاعه.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن له أن يرجع على صاحب المتاع بما أغرم على متاعه، وعلى هذا يأتي قول ابن وهب في المبسوطة في الخليطين يكون لأحدهما مائة وعشرون شاة، وللثاني ثلاثون شاة، فيأخذ الساعي منه شاتين: إن الشاة الواحدة تكون على صاحب العشرين ومائة، والثانية يتراداها بينهما على عدد غنميهما، وقد مضى بيان هذا هنالك، وهذا الاختلاف إنما هو فيما لم يعلم صاحب المتاع به، وأما ما علم به مثل المتاع يتوجه به الرجل من بلد إلى بلد مع رجل، وقد علم أن بالطريق مكانا يؤدي الناس على ما يمرون عليه من المتاع، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يجب على رب المتاع للرجل ما أغرم على متاعه.
وقد رأيت ذلك لابن دحون، وقال: إنه بمنزلة الرجل يتعدى عليه السلطان، فيغرمه يتسلف ما يغرم، فذلك بين لازم، وهو حلال لمن أسلفه، ووجه ما ذهب إليه: أنه لما علم إذا بعث المتاع معه أنه سيغرم عليه فكأنه سأله أن يسلفه ما لزم إياه من الغرم على متاعه.
ومن هذا المعنى ما قال سحنون في الرفاق في أرض المغرب يعرض لهم اللصوص، فيريدون أكلهم فيقوم بعض أهل الرفقة فيصالحهم على مال، عليه وعلى جميع من معه، وعلى من غاب من أصحاب الأمتعة، فيريدون من غاب أن يدفع ذلك عن نفسه، قال: إذا كان ذلك مما قد عرف من سنة تلك البلاد أن إعطاء المال يخلصهم وينجيهم، فإن ذلك لازم لمن حضر ولمن غاب ممن له أمتعة في تلك الرفاق وعلى أصحاب الظهر من ذلك ما ينويهم، وإن كان يخاف أن لا ينجيهم ذلك وإن أعطوا، وكان فيهم موضع لدفع ذلك، فما أحب لهم إلا أن يدفعوا عن أنفسهم وأموالهم، فإن لم يفعلوا وأعطوا على ذلك شيئا لم يرجع بذلك على من غاب من أصحاب الأمتعة، وبالله التوفيق.

.مسألة يكون في يديه الودائع للناس وهويعلم أنه ينفق منها فيموت فيوصي بودائع:

ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار:
قال عيسى: وسئل: عن الرجل يكون في يديه الودائع للناس وهو يعلم أنه ينفق منها فيموت فيوصي بودائع فيوجد في تابوته وتحت غلقه كيس فيه دنانير، وفي الكيس مكتوب: إنها لفلان وعددها كذا وكذا، فيوجد العدد الذي كتب فيه أكثر من عدد ما وجد فيه من الدنانير، هل ترى نقصان عدتها مما في الكتاب في ماله؟ فقال: إن قال شهيدان: إن الخط خطه كان ذلك في ماله، وإن لم يشهد على ذلك أحد حلف الورثة أنهم لا يعلمون من ذلك شيئا ولا شيء عليهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس. وزاد أصبغ هناك: وكذلك لو وجد عليها خط صاحب الوديعة أنها له مع كونها في حوز المستودع وتحت غلقه لقضي له بها، وقد رأيت لابن دحون: أنه لا يُقضى له بها لاحتمال أن يكون بعض الورثة أخرجها له فكتب عليها اسمه وأخذ على ذلك جعلا.
ولا اختلاف في أنه لا يُقضى له بها إذا وجد عليه اسمه ولا يُدرى من كتبه على ما يأتي في سماع أبي زيد بعد، ولا في أنه يقضى له بها إذا وجد عليها اسمه بخط يد المتوفى المستودع إلا على مذهب من لا يرى الحكم بالشهادة على الخط في موضع من المواضع، وقد مضى تحصيل القول في الشهادة على الخط في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله هناك.

.مسألة استودع رجلا قمحا فاحتمله المستودع إلى بلد فأراد بيعه فأدركه صاحبه:

قال مالك: لو أن رجلا استودع رجلا قمحا فاحتمله المستودع إلى بلد فأراد بيعه فأدركه صاحبه والقمح بيده لم يغيره لم يكن له أن يأخذه منه إلا بالمكان الذي استودعه فيه، وكذلك السلف، وكذلك السارق لو سرق بالمدينة طعاما فأخذه بمصر لم يكن عليه أن يؤديه إلا بالمدينة، ولو وجد بيده طعاما بعينه، قال عيسى: إذا كان الطعام هو طعام المسروق بعينه فله أن يأخذه حيث أدركه إن أحب.
قال محمد بن رشد: ساوى مالك في هذه الرواية بين الوديعة والسلف والسرقة في أنه ليس للمودع ولا للمقرض ولا للمسروق منه أن يأخذ طعامه إلا في البلد الذي أودعه فيه أو أسلفه فيه أو سرق منه فيه.
فأما السلف فلا خلاف فيه؛ لأنه إن لو حكم له بأخذه في غير البلد الذي أسلفه فيه لكان قد ربح الحملان.
وأما الطعام الذي أودعه أو سرق منه فاختلف إن وجده بعينه في غير البلد الذي أودعه فيه أو سرق وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثاني: أنه مخير بين أن يأخذ طعامه بعينه أو مثله في البلد الذي أودعه فيه أو سرق منه فيه، وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية من رأيه وقول ابن نافع وأشهب في رواية أصبغ عنه من كتاب الغصب.
والثالث: تفرقة أصبغ من رأيه في سماعه من الكتاب المذكور بين أن يكون البلد قريبا أو بعيدا، فقال في القريب بقول أشهب، وفي البعيد بقول ابن القاسم، قال: والظالم يحمل عليه بعض الحمل، ولكن قاله في السرقة، والوديعة مثله، وفرق ابن القاسم بين الطعام والعروض والحيوان، فقال في الطعام ما ذكر عنه من أنه ليس له إلا طعامه بالموضع الذي أخذ منه، وقال في الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم في حملهم من بلد إلى بلد، وفي الدواب ليس له إلا أخذهم حيث وجدهم، وقال في الرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم في حملهم من بلد إلى بلد، وفي البز والعروض: إنه مخير بين أن يأخذ ذلك في الموضع الذي وجده فيه وبين أن يأخذ قيمته في الموضع الذي أخذ منه، وساوى أشهب بين ذلك كله في أنه بالخيار بين أن يأخذه حيث ما وجده، وبين أن يأخذ مثل الطعام في الموضع الذي أخذه منه وقيمة العروض والحيوان في الموضع الذي أخذها فيه يوم أخذها.
وفرق أصبغ بين الطعام والعروض والحيوان، فقال في الطعام بقول ابن القاسم: إنه ليس له إلا طعامه بالموضع الذي أخذه منه إلا أن يكون قريبا على ما ذكرناه عنه من تفرقته في ذلك بين القريب والبعيد. وقال في العروض والحيوان بقول أشهب: إنه مخير أن يأخذ ذلك منه أو قيمته في الموضع الذي أخذه منه. وفرق سحنون أيضا بين الطعام والعروض والحيوان، فقال في الطعام بقول ابن القاسم: إنه ليس له إلا طعامه بالموضع الذي أخذه منه، وقال في العروض والحيوان: إنه ليس له إلا أخذ متاعه بعينه في الموضع الذي وجده فيه.
فيتحصل في العروض والحيوان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس له إلا أن يأخذها حيث وجدها، وهو قول سحنون.
والثاني: أنه مخير بين أن يأخذها وبين أن يأخذ قيمتها في البلد الذي أخرجها، وهو قول أصبغ، وظاهر روايته عن أشهب في سماعه من كتاب الغصب.
والثالث: تفرقة ابن القاسم بين العروض والرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم في حملهم من بلد إلى بلد، ويين الدواب والرقيق الذي لا يحتاج على الكراء عليهم.
وفي الطعام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس له إلا مثل طعامه في الموضع الذي أخذ منه، وهو قول ابن القاسم.
والثاني: أنه له الخيار في أن يأخذه بعينه إن شاء.
والثالث: تفرقة أصبغ بين القريب والبعيد، فلا يقول أحد منهم في الطعام: إنه يلزمه أن يأخذه حيث وجده، وإنما اختلفوا هل له أن يأخذه بعينه حيث وجده، أو ليس له إلا مثله في الموضع الذي أخذ منه، ولا في العروض والحيوان أنه ليس له أن يأخذها، وإنما اختلفوا هل له أن يأخذها أو هل يلزمه أن يأخذها، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

.مسألة يتكفل برجل إلى أجل على أنه إن لم يوافه فهو ضامن للمال فلا يوافه:

ومن كتاب جاع فباع امرأته:
وسألته: عن الرجل يستودع الرجل الوديعة فيقبضها منه، فيقول: نقصت وديعتي، ويقول المستودع: بل هي وديعتك كلها، فيتداعيان إلى السلطان، فيقول له المستودع: أنا أريد سفرا فلا تشغلني عنه، فإذا انصرفت مما ادعيت مما حلفت عليه فهو لك قبلي، فيدعه على ذلك، فلما انصرف، قال: ما لك قبلي شيء، وإنما قلت ذلك لئلا تقطعني عن سفري، قال: لا يلزمه ذلك، ويغرم له كل ما حلف عليه المدعي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن اليمين كانت واجبة له على المودع، فرضي بردها عليه، فلزمه ذلك، فلم يكن له عنه رجوع، ولو قال: دعني أخرج إلى سفري، فإن لم أرجع إلى وقت كذا وكذا فأنت مصدق فيما تدعي مع يمينك، لم يلزمه ذلك؛ لأنه مخاطرة خلاف هذه المسألة، حكى التفرقة بين الوجهين ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ من أن ذلك لا يلزمه في الشرط هو على قياس قول ابن القاسم في الكفالة من المدونة في الذي يتكفل برجل إلى أجل على أنه إن لم يوافه به عند الأجل فهو ضامن للمال فلا يوافه به عند الأجل أن المال لا يلزمه إن أتى به بعد ذلك قبل أن يحكم عليه، ومحمد بن عبد الحكم يقول: إن ذلك لا يلزم المودع وإن كان قوله على وجه الشرط ويحلف ويبرأ، فإن نكل عن اليمين حلف رب المال وأخذ تمام وديعته، ووجه قوله: أنه عذر المودع بما اعتذر به من أنه إنما قال ذلك لئلا يقطع به عن سفره، ولو رد عليه اليمين دون سبب للزمه ذلك قولا واحدا، وإنما يختلف إذا نكل عن اليمين، فقال: لا أحلف، ولم يصرح بردها على المدعي ثم أراد أن يحلف بعد ذلك، هل يكون ذلك له أم لا؟ على قولين، وأهل المشرق لا يرون رد اليمين على المدعي، فإذا نكل المدعى عليه عندهم عن اليمين كان نكوله كالإقرار ولزمه الحق، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إنما يصح هذا الجواب على أن الوديعة كانت ببينة، أو على قول من رأى اليمين على المودع إذا انتقصت الوديعة، فإن لم تكن ببينة فكأنه رضي برد اليمين على المودع فلزمه ذلك، ولم يكن له عنه رجوع، وهو غير صحيح؛ لأنه لا خلاف في وجوب اليمين على المودع في دعوى النقصان إن لم يكن على الوديعة بينة، ولا في أن الغرم يلزمه دون أن يحلف رب الوديعة إذا كانت عليها بينة، وبالله التوفيق.

.مسألة قال هذه المائة وديعة عندي لفلان أو لفلان:

وسئل: عن الرجل يستودع الرجل ثلاثين دينارا وبين يديه ثلاثون دينارا فيجعلها في قرب التي بين يديه، فتذهب منها عشرة فلا يدري من أي ذهبت؟ قال: عليه أن يدفع إلى المستودع ثلاثين تامة.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أدري من أين ذهبت- معناه: لا أدري الثلاثين التي ذهبت منها العشرة أن كانت في المودعة أو التي كانت بين يديه، إذ لو عرف المودعة من التي كانت بين يديه لعرف من أين ذهبت بوجودها ناقصة إذا وزنت، وجوابه هذا في هذه المسألة إنما يصح على قول من قال، في رجل قال: هذه المائة وديعة عندي لفلان أو لفلان: أنه يغرم لهما مائتين مائة لكل واحد منهما. وأما على قول من قال: إنهما يحلفان جميعا ويقتسمان المائة ولا يكون على المقر شيء، فيأتي على قياس قوله في هذه المسألة: إن ادعى المدع الثلاثين التي لم يذهب منهما شيء كانت له، قيل: بيمين، وقيل: بغير يمين، على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وإن لم يدعها وقال لا أدري أيتهما لي، إن كانت التي لم يذهب منها شيء أو الأخرى التي ذهبت منها العشرة، فتكون مصيبة العشرة منها، ويقتسمان الخمسة الباقية بينهما بنصفين دون يمين، وقيل: بعد أن يحلف كل واحد منهما؛ لأنه لا يدري إن كانت العشرة ذهبت من متاعه أو من متاع صاحبه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا عن اليمين على هذا الوجه كانت الخمسون بينهما بنصفين، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كانت الثلاثون للحالف بينهما، وهذا الاختلاف في اليمين على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، وبالله التوفيق.

.مسألة دفع إليه ثلاثة دنانير إلى عشرته فضاع من ذلك ديناران:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألته: عن الرجل يكون معه عشرة دنانير لنفسه فيدفع إليه رجل دينارا استودعه إياه فيذهب منها دينار، كيف يكون ضمانه عليهما؟ قال: يأخذ صاحب العشرة تسعة دنانير ويقتسمان العاشر ويكون ضمان الذاهب بينهما بنصفين، قلت له: فقول مالك: إن صاحب الدينار يكون شريكا في الأحد عشر دينارا على حساب الدينار، ولا يكون عليه من ضمان الدينار الذاهب إلا سهم من أحد عشر سهما، أيؤخذ به؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب تضمين الصناع من المدونة وفي غيره من المواضع، هو اختلاف مشهور معلوم، وسواء في هذا كان المودع صاحب العشرة الدنانير أو صاحب الدينار، وسواء تقارا على تلف الدينار أو علم ذلك ببينة إذا دعاه المودع فصدق في ذلك بغير يمين أو بيمين إن كان متهما.
ولو دفع إليه ثلاثة دنانير إلى عشرته، فضاع من ذلك ديناران، كان لصاحب العشرة ثمانية ولصاحب الثلاثة دينار، ويقتسمان الدينارين الباقيين بينهما بنصفين، ولو ضاع من ذلك ثلاثة دنانير لكان لصاحب العشرة سبعة، ويقتسمان الثلاثة بينهما على نصفين، وعلى قول مالك: يقتسمان الأحد عشر، إن كان ضاع منها ديناران، أو العشرة إن كان ضاع منها ثلاثة دنانير على ثلاثة عشر جزءا. والحكم في الشيء يتداعى فيه الرجلان، فيقول أحدهما: لي جميعه، ويقول الآخر: لي عشره- يجري على هذا الاختلاف إذا لم يكن في يد واجد منهما باتفاق، واختلف إن كان بأيديهما جميعا، فقيل: إنه يجري على هذا الاختلاف أيضا بعد أيمانهما، وقيل: إن القول قول الذي ادعى العشر مع يمينه؛ لأنه حائز للنصف، فعلى من ادعى عليه أن له أكثر من النصف إقامة البينة، وبالله التوفيق.

.مسألة دفع إلى رجل مائة دينار وعهد إليه أن لا يدفعها إلا إلى من أتاه بأمارة:

ومن كتاب الأقضية:
قال يحيى: وسألت ابن وهب: عن رجل دفع إلى رجل مائة دينار يستودعه إياها وعهد إليه أن لا يدفعها إلا إلى من أتاه بأمارة أعلمه بها لم يطلع عليها غيره، فأتى رجل بتلك الأمارة فدفع إليه المال ومات المستودع صاحب أصل المال، فقام ورثته إلى الذي قبض المال بالأمارة، فقالوا: قد وصل إليك مالنا فما الذي صنعت به، فقال: صنعت به الذي أمرني أبوكم به، وهو صاحب المال، قالوا: فما أمرك به؟ قال: ليس علي أن أخبركم بالذي أمرني به، غير أني قد صنعت بأمره، قال: أرى أن يحلف قابض المال بالأمارة بالله الذي لا إله إلا هو لقد فعل الذي أمره به في المال لم يتعد إلى غيره، ثم يبرأ، وسألت عن ذلك ابن القاسم، فقال لي مثل ما قال ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر؛ لأن القياس كان فيها إذا لم يدع الورثة علم ما أمره به موروثهم قابض المال بالأمارة أن يصدق فيما زعم أن رب المال أمره أن يفعله فيه، ولا يصدق أنه قد فعله حتى يعلم ما هو، إذ من الأشياء ما لا يصدق المأمور فيها أنه قد فعله حتى يقيم البينة على ذلك، فكان الواجب أن يسأل قابض المال بالأمارة عما أمر به في المال، وهل فعله أم لا؟ وإن ذكر أنه أمره أن يفعل فيه ما هو مصدق على فعله صدق مع يمينه في أنه أمر بذلك وفي أنه قد فعله، وإن ذكر أنه أمره أن يفعل فيه ما لا يصدق على فعله حتى يقيم البينة على ذلك صدق مع يمينه في أنه أمر بذلك، ولم يصدق في أنه قد فعله حتى يقيم البينة على ذلك.
وأما إن ادعى الورثة معرفة ما أمره به موروثهم في المال فينزلون منزلته في الدعوى، ويكون القابض للمال مدعيا فيما زعم أنه أمره به فيما مما لم يقر له به الورثة وكذبوه فيه، فما لهذه المسألة عندي وجه إلا أن يتأول على أن قبض المال بالأمارة لم يعلم إلا من قبل قابضه بأن يأتي الورثة فيقول لهم كان أبوكم قد أمرني أن أقبض مالا له عند فلان بأمارة أعلمني بها فقبضته وصنعت فيه ما أمرني أبوكم، فليس عليه إذا كان الأمر على هذا أن يبين لهم ما أمره به أبوهم إذ لو شاء أن لا يقر بشيء لفعل، وبالله التوفيق.

.مسألة يستودع الوديعة ثم يتصدق بها على رجل:

من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم: عن الرجل يستودع الوديعة ثم يتصدق بها على رجل يقول أشهدكم أني قد تصدق بالوديعة التي عند فلان على فلان لا يكون منه أكثر ولم يأمره أن يقبض له، ثم مات.
قال: إن علم المستودع أنه يصدق بذلك فأراها للمتصدق عليه، وإن لم يعلم فلا أرى للمتصدق عليه شيئا، قلت: من أي وجه قال؟ من قبل أنه إذا علم أنه تصدق بما في يديه فقد صار قابضا للمتصدق عليه حتى لو أراد صاحب الوديعة أخذها لكان يبتغي للمستودع أن لا يدفعها إليه، فإن دفعها إليه ضمنها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الرواية بعينها في هذا السماع من كتاب الصدقات والهبات وشرط فيها في صحة الحيازة معرفة المستودع خلافا لما في المدونة؛ لأنه جعل فيه قبض المستخدم والمستعير قبضا للموهوب له، ولم يشترط معرفتهما، ويخرج في المسألة قول ثالث، فالقياس على ارتهان فضلة المرهن أن الحيازة لا تصح إلا أن يعلم المستودع ويرضى أن يكون حائزا للموهوب له إلا أن يفرق في ذلك بين الرهن والصدقة حسبما مضى القول فيه مجودا في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الرهون، وإنما يكون قبض المستودع قبضا للمتصدق عليه إذا علم على هذه الرواية أو علم أو لم يعلم على مذهبه في المدونة، إذا قبل الموهوب له الهبة، فأما إذا لم يعلم منه قبول حتى مات الواهب، فلا شيء له، ولا شيء على المستودع في ردها قبل قبول الموهوب له الهبة وعلمه بها، هذا إذا كان الموهوب له حاضرا، وأما إن كان غائبا تصح حيازة المستودع له وإن مات الواهب قبل أن يقبل الموهوب له، وسواء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك كان الشيء الموهوب بيد الموهوب له أو بيد حائز يحوزه له وهو حاضر إن لم يقبل حتى مات الواهب بطلت الهبة، وقال أشهب: إذا كان الشيء الموهوب بيد الموهوب له صحت له الحيازة، وإن لم يقبل حتى مات الواهب؛ لأن كون ذلك في يديه أحوز الحوز، وبالله التوفيق.